• الاثنين 17 صَفَر 1447 هـ ,الموافق :11 أغسطس 2025 م


  • لماذا يقدر الله بعض الشرور في الحياة ؟




  • ماهي الحكم من تقدير الشر في الحياة؟

    هنا كلام جميل لابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين 2 / 510

    يقول: فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبُّه؟ وكيف يشاؤه ويكوِّنه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟

    قيل: هذا السُّؤال هو الذي افترق الناس لأجله فِرَقًا، وتباينت عنه طرقهم وأقوالهم.

    فاعلم أنَّ المراد نوعان: مرادٌ لنفسه، ومرادٌ لغيره.
    فالمراد لنفسه مطلوبٌ محبوبٌ لذاته وما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادةَ الغايات والمقاصد.
    والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودًا للمريد، ولا فيه مصلحةٌ له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلةً إلى مقصوده ومراده. فهو مكروهٌ له من حيث نفسه وذاته، مرادٌ له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده.

    فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلَّقهما، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا عَلِم متناوِله أنَّ فيه شفاءه، وقطع العضو المُتأكِّل إذا علم أنَّ في قطعه بقاءَ جسده، وكقطع المسافة الشاقَّة جدًّا إذا علم أنَّها توصل إلى مراده ومحبوبه.

    بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظنِّ الغالب وإن خفيت عنه عاقبته وطويت عنه مغبَّته، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب؟ فهو سبحانه يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونَه سببًا إلى أمرٍ هو أحبُّ إليه من فوته.

    فمن ذلك: أنَّه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادَّةٌ لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملِهم بما يغضب الربَّ تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبُّه الله ويرضاه بكلِّ طريقٍ وبكلِّ حيلة، فهو مسخوط للربِّ مبغوض، لعنه الله ومقته وغضب عليه.

    ومع هذا فهو وسيلةٌ إلى محابَّ كثيرةٍ للربِّ تعالى ترتَّبت على خلقه، وجودُها أحبُّ إليه من عدمها.

    ومنها: أن يظهر للعباد قدرة الربِّ تعالى على خلق المتضادَّات المتقابلات، فخلَقَ هذه الذات التي هي من أخبث الذوات وشرِّها، وهي سبب كلِّ شرٍّ، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادّة كلِّ خيرٍ؛ فتبارك خالقُ هذا وهذا.

    كما ظهرت قدرته التامَّة في خلق الليل والنهار، والضِّياء والظلام، والدَّاء والدَّواء، والحياة والموت، والحرِّ والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والماء والنار، والخير والشرِّ.

    وذلك من أدلِّ الدلائل على كمال قدرته وعزَّته وملكه وسلطانه، فإنَّه خلق هذه المتضادَّات وقابَلَ بعضها ببعضٍ وسلَّط بعضها على بعض، وجعلها محالَّ تصرُّفه وتدبيره وحكمته، فخلوُّ الوجود عن بعضها بالكليَّة تعطيلٌ لحكمته وكمالِ تصرُّفه وتدبير مملكته.

    ومنها: ظهور آثار أسمائه القهريَّة، مثل القهَّار، والمنتقم، والعدل، والضارِّ، وشديد العقاب، وسريع العقاب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذلِّ.

    فإنَّ هذه الأسماء والأفعال كمالٌ، فلا بدَّ من وجود متعلِّقها، ولو كان الخلق كلُّهم على طبيعة المَلَك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.

    ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمِّنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقِّه، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلقُ ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطَّلت هذه الحِكَم والفوائد، وقد أشار النبيُّ ﷺ إلى هذا بقوله: لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم.

    ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنَّه الحكيمُ الخبيرُ الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمالُ علمه وحكمته وخبرته، فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع المنع والحرمان، ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب ، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع مكان الخفض، ولا العزَّ مكان الذلِّ، ولا الذلَّ مكان العزِّ، ولا يأمر بما ينبغي النهيُ عنه، ولا ينهى عمَّا ينبغي الأمرُ به.

    فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ووصولها ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها ويضعَها عند غير أهلها.

    فلو قدِّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة  له لتعطَّلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكم والمصالح المترتِّبة عليها، وفواتُها شرٌّ من حصول تلك الأسباب، فلو عطِّلت تلك الأسباب لِما فيها من الشرِّ لتعطَّل الخير الذي هو أعظم من الشرِّ الذي في تلك الأسباب.

    وهذا كالشمس والمطر والرِّياح التي فيها من المصالح ما هو أضعافُ أضعافِ ما يحصل بها من الشرِّ، فلو قدِّر تعطيلها لئلَّا يحصل منها ذلك الشرُّ الجزويُّ لتعطَّل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشرِّ بما لا نسبة بينه وبينه.

    ومنها: حصول العبوديَّة المتنوِّعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضَها لا كلَّها، فإنَّ عبوديَّة الجهاد من أحبِّ أنواع العبوديَّة إليه سبحانه. ولو كان الناس كلُّهم مؤمنين لتعطَّلت هذه العبوديَّة وتوابعُها مِن الموالاة فيه سبحانه والمعاداة فيه، والحبِّ فيه والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوِّه، وعبوديَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبوديَّة الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محابِّ الربِّ على محابِّ النفس.

    ومنها: عبوديَّة التوبة والرُّجوع إليه واستغفاره، فإنَّه سبحانه يحبُّ التوَّابين ويحبُّ توبتهم، فلو عطِّلت الأسباب التي يُتاب منها لتعطَّلت عبوديَّة التوبة والاستغفار.

    ومنها: عبوديَّة مخالفة عدوِّه، ومراغمته في الله، وإغاظته  فيه.

    وهي من أحبِّ أنواع العبوديَّة إليه، فإنَّه سبحانه يحبُّ من وليِّه أن يغيظ عدوَّه ويراغمَه ويسوءَه، وهذه عبوديَّة لا يتفطَّن لها إلا الأكياس.

    ومنها: أن يتعبَّد له بالاستعاذة من عدوِّه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه.

    ومنها: أنَّ عبيده يشتدُّ خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلَّ بعدوِّه بمخالفته وسقوطه من المرتبة الملكيَّة إلى المرتبة الشيطانيَّة، فلا يخلدون إلى غرور الأمن  بعد ذلك.

    ومنها: أنَّهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته، الذي حصولُه مشروطٌ بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتَّبةٌ على مخالفته.

    ومنها: أنَّ نفس اتِّخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبوديَّة وأجلِّها. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: ٦]، فاتِّخاذه عدوًّا أنفع شيءٍ للعبد، وهو محبوبٌ للربِّ.

    ومنها: أنَّ الطبيعة البشريَّة مشتملةٌ على الخير والشرِّ والطيِّب والخبيث، وذلك كامنٌ فيها كمون النار في الزِّناد، فخُلق الشيطان مستخرجًا ما في طبائع أهل الشرِّ من القوَّة إلى الفعل، وأُرسلت الرُّسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوَّة إلى الفعل؛ فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتَّب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشرِّ ليترتَّب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا لعلمه السابق.

    وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكتُه حين قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فظنَّت الملائكة أنَّ وجود من يسبِّح بحمده ويطيعه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنَّه يعلم من الحكم والمصالح والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة.

    ومنها: أنَّ ظهور كثيرٍ من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النُّفوس الكافرة الظالمة، كآية الطُّوفان، وآية الرِّيح، وآية إهلاك ثمودَ وقومِ لوطٍ، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي أجراها الله على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كلِّ آيةٍ منها: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهْوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء] . فلولا كفر الكافرين وعناد الجاحدين لَما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يُتحدَّث بها جيلًا بعد جيلٍ إلى الأبد.

    ومنها: أنَّ خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر بعضها بعضًا هو من شأن كمال الرُّبوبيَّة والقدرة النافذة، والحكمة التامَّة، والملك الكامل. وإن كان شأن الرُّبوبيَّة كاملًا في نفسه ولو لم تُخلَق هذه الأسباب، لكنَّ خلقها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيقٌ لذلك الكمال وموجَبٌ مِن موجباته، فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصِّفات من آثار الكمال الإلهيِّ المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته.

    وبالجملة: فالعبوديَّة والآيات والعجائب التي ترتَّبت على خلق ما لا يحبُّه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحبُّ إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.

     


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ( 3 )

    0:00

    اقرأ في سير الناجحين

    0:00

    أربعون خاطرة في الصيف

    0:00

    تأملات في سورة الحجرات - 1

    0:00

    العلم والخشية

    0:00



    عدد الزوار

    6385401

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 38 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1675 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة