قال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج ( 2 / 150)
فأمَّا المسموع فعلى ثلاثة أضربٍ:
أحدها: مسموعٌ يحبُّه الله ويرضاه، وأمر به عباده، وأثنى على أهله ورضي عنهم به.
والثاني: مسموعٌ يبغضه ويكرهه، ونهى عنه، ومدح المعرضين عنه.
الثالث: مسموعٌ مباحٌ مأذونٌ فيه، لا يحبُّه ولا يبغضه، ولا مدح صاحبه ولا ذمَّه، فحكمه حكم سائر المباحات من المناظر والمشامِّ والمطعومات والملبوسات المباحة.
فمن حرَّم هذا النوع الثالث فقد قال على الله ما لا يعلم، وحرَّم ما أحلَّ الله. ومن جعله دينًا وقربةً يتقرَّب به إلى الله فقد كذب على الله، وشرع دينًا لم يأذن به الله، وضاهى بذلك المشركين.
ثم قال: فأمَّا النوع الأوَّل فهو السماع الذي مدحه في كتابه، وأمر به وأثنى على أصحابه، وذمَّ المعرضين عنه ولعنهم وجعلهم أضلَّ من الأنعام، وهم القائلون في النّار: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١٠].
وهو سماع آياته المتلوَّة التي أنزلها على رسوله ﷺ، فهذا السماع أساس الإيمان الذي عليه بناؤه.
وهو على ثلاثة أنواعٍ: سماع إدراكٍ بحاسَّة الأذن، وسماع فهمٍ وعقلٍ، وسماع إجابةٍ وقبولٍ؛ والثلاثة في القرآن.
فأمَّا سماع الإدراك ففي قوله تعالى حكايةً عن مؤمني الجنِّ قولَهم:
﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ [الجن: ١] وقولهم: ﴿يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: ٣٠]، فهذا سماع إدراكٍ اتَّصل به الإيمان والإجابة.
وأمّا سماع الفهم فهو المنفيُّ عن أهل الإعراض والغفلة، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ﴾ [الأنفال: ٢٣]، أي لو علم الله في هؤلاء الكفَّار قبولًا وانقيادًا لأفهمهم، وإلَّا فهُم قد سمعوا سمع الإدراك، ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ﴾، أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموه ، لأنَّ في قلوبهم من داعي التولِّي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه.
وأمَّا سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكايةً عن عباده المؤمنين أنّهم قالوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥]، فإنَّ هذا سماع قبولٍ وإجابةٍ مثمرٌ للطاعة، والتّحقيق أنَّه متضمِّن للأنواع الثّلاثة، وأنَّهم أخبروا بأنَّهم أدركوا المسموع وفهموه وأجابوا له.
والمقصود أنّ سماع خاصَّة الخاصَّة المقرَّبين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكًا، وفهمًا وتدبُّرًا، وإجابةً، وكلُّ سماعٍ في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه، فهو هذا السماع.
وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات ؛ وسماع القرآن، لا سماع الشيطان؛ وسماع المراشد، لا سماع القصائد؛ وسماع الأنبياء والمرسلين والمؤمنين ، لا سماع المغنِّين والمطربين؛ وسماع كلام ربِّ الأرض والسماء، لا سماع قصائد الشُّعراء.
فهذا السماع حادٍ يحدو القلوب إلى جوار علَّام الغيوب، وسائقٌ يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحرِّكٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ومنادٍ ينادي للإيمان، ودليلٌ يدل بالركب في طريق الجنان، وداعٍ يدعو القلوب بالمساء والصباح من قِبَل فالق الإصباح: حيَّ على الفلاح، حيّ على الفلاح.
فلن تَعْدَم مِن هذا السّماع إرشادًا لحجَّة، وتبصرةً لعبرة، وتذكرةً لمعرفة، وفكرةً في آيةٍ، ودلالةً على رشد، وردًّا عن ضلالة، وإرشادًا من غيٍّ، وبصيرةً من عمًى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرَّةٍ ومفسدة، وهدايةً إلى نور، وإخراجًا من ظلمة، وزجرًا عن هوًى، وحثًّا على تُقًى، وجلاءً لبصيرة، وحياةً لقلب وغذاءً، ودواءً وشفاءً، وعصمةً ونجاةً، وكشفَ شبهة، وإيضاحَ برهان، وتحقيقَ حقٍّ وإبطالَ باطل.
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
شرح القواعد الأربع
0:00
أدلة وجود السحر
0:00
شهادة الأرض
0:00
برامج التواصل.. همسات وخواطر
0:00
وصايا للطلاب
0:00

عدد الزوار
6357136
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 38 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1672 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |